أحاديث لها قصة
من سن في الإسلام سنة حسنة
عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم الصوف فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة فحث الناس على الصدقة فأبطئوا عنه حتى رئي ذلك في وجهه، ثم إن رجلا من الأنصار جاء بصرة من ورق ثم جاء آخر ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سَنَّ فِي الإسلام سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِها بعْدَهُ كُتِب لَه مثْلُ أَجْر من عَمِلَ بِهَا وَلا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، ومَنْ سَنَّ فِي الإسلام سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وزر من عَمِلَ بِهَا ولا يَنْقُصُ من أَوْزَارهِمْ شَيْءٌ» [رواه مسلم].
من المعلوم أن الإنسان لديه دافع داخلي يدفعه إلى حب الفضيلة والخير وفعلهما، وهو أمر مغروس في فطرته فإذا وجد من يفعل المعروف فإن ذلك يحركه للقيام به، فإذا كان ذلك الفاعل للخير من نظرائه كان الدافع لفعله أكبر، فكيف إذا أمره بفعله آمر وحرضه عليه؟!، لا ريب أن هذا يكون أدعى إلى القيام به، ثم لو لِيمَ على ترك ذلك المعروف أو نيل منه بكلام كان ذلك دافعا خامسا لتحقيقه، وذلك لأن النفوس مجبولة على تشبه بعضها ببعض فإذا كثر الفاعلون للخير تداعى الناس لفعله والعكس بالعكس.
وعظم الجزاء في هذا الحديث منبثق من حب الإسلام للخير والحرص على نشره وبغض الشر والعمل على تحجيمه ووأده في مهده والأحاديث النبوية متكاثرة في تأكيد هذا المعنى فقال -صلى الله عليه وسلم-: «الدال على الخير كفاعله» [صححه الألباني]، «خير الناس أنفعهم للناس» [حسنه الألباني]، «أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإن عليه مثل أوزار من اتبعه ولا ينقص من أوزارهم شيئا وأيما داع دعا إلى هدى فاتبع فإن له مثل أجور من اتبعه ولا ينقص من أجورهم شيئا» [رواه ابن ماجه وصححه الأباني]، «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» [رواه مسلم]، أي من دعا إلى ما يهتدى به من العمل الصالح، وهو بحسب تنكير (هدى) مطلق شائع في جنس ما يقال له هدى فيطلق على القليل والكثير، وعلى الحقير والعظيم، فأعظم الهدى من دعا إلى اللّه وعمل صالحاً وأدناه من دعا إلى إماطة الأذى، ولهذا عظم شأن الفقيه الداعي المنذر حتى فضل واحد منهم على ألف عابد، ولأن نفعه يعم الأشخاص والأعصار إلى يوم الدين «كان له من الأجر مثل أجور من تبعه» لأن اتباعهم له تولد عن فعله الذي هو من سنن المرسلين، «لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً» فيه دفع ما يتوهم أن أجر الداعي إنما يكون بالتنقيص من أجر التابع وضمه إلى أجر الداعي ، فكما يترتب الثواب والعقاب على ما يباشره ويزاوله، يترتب كل منهما أيضا على ما هو سبب فعله كالإرشاد إليه والحث عليه، «ومن دعا إلى ضلالة» ابتدعها أو سبق بها «فإن عليه من الإثم مثل آثام من تبعه» لتولده عن فعله الذي هو من خصال الشيطان، والعبد يستحق العقوبة على السبب وما تولد منه، كما يعاقب السكران على جنايته حال سكره، وإذا كان السبب محظوراً لم يكن السكران معذوراً، فاللّه يعاقب على الأسباب المحرمة وما تولد منها، كما يثيب على الأسباب المأمور بها وما تولد منها، ولهذا كان على قابيل القاتل لأخيه كفل من ذنب كل قاتل، وهذا لا يعارضه حديث «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث...» [صححه الألباني]، لأنه نبه بتلك الثلاث على ما في معناها من كل ما يدوم النفع به للغير، «ولا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» ضمير الجمع في «أجورهم وآثامهم» يعود لمن باعتبار المعنى فإن قيل إذا دعا واحد جمعاً إلى ضلالة فاتبعوه لزم كون السيئة واحدة وهي الدعوة مع أن هنا آثاماً كثيرة قلنا تلك الدعوة في المعنى متعددة لأن دعوى الجمع دفعة دعوة لكل من أجابها، فإن قيل كيف التوبة مما تولد وليس من فعله والمرء إنما يتوب مما فعله اختياراً قلنا يحصل بالندم ودفعه عن الغير ما أمكن.
وفي حديثنا أيضا التحذير من الضلال، واجتناب البدع ومحدثات الأمور في الدين، والنهى عن مخالفة سبيل المؤمنين، ووجه التحذير أن الذي يحدث البدعة قد يتهاون بها لخفة أمرها في أول الأمر، ولا يشعر بما يترتب عليها من المفسدة، وهو أن يلحقه إثم من عمل بها من بعده، ولو لم يكن هو عمل بها بل لكونه كان الأصل في إحداثها.
د. خالد سعد النجار